Menu Close

طعنة الإحباط النفسي | قصة قصيرة

احذروا أيها الآباء طعنة الإحباط النفسي القاتلة

frustration
frustration

طعنة الإحباط النفسي

بقلم د/ وفاء متولي

انضم لكوكب المعرفة

أكتب لكم وأن أعي تماماً أنني أكتب بصوت المستفيد من الخبرة لا بصوت المتحسر على ما فات من قهر ومعاناة،

فأنا الآن في السنة الأولى من التعليم الجامعي،

أسوق لكم حكايتي؛

فمنذ كنت طفلاً وأنا لي أخت تصغرني بخمس سنوات، وأخ يكبرني بثلاث سنوات كان أخي هو الأول والأخير في دائرة اهتمام والداي،

كانا يروناه ليس فقط الأكبر ولكن أيضا الأجمل والأذكى والأكفأ والأكثر مهارة مني،
كنت في مقارنة دائمة معه في كل ما يطلب مني في الحياة اليومية،
فأمي بحكم عاداتنا الشرقية هي المسئولة عن متابعة دروسنا واستذكارها، وأبي مشغول بعمله والكسب من أجلنا، لم تدرك أمي يوماً مفهوم الفروق الفردية بين الأطفال رغم دراستها وتخرجها في إحدى الكليات الإنسانية،
أخي دائما هو الطفل النبيه الذي لا يجدوا معه معاناة في دراسته واستذكاره، بخلافي أنا حيث كانوا دائمي الشكوى مني ومن مستوى استيعابي لما أدرسه، كانت أمي تعاني عندما تشرح لي درساً وكانت تنعتني دائما “بالغباء” كانت تقول أنني أعاني من صعوبات التعلم، وكانت ببساطة تقارنني بأخي، الأجمل والأذكى والأكفأ،

لا تتخيل يا عزيزي القارئ كم المشاعر النفسية التي تحملتها عندما أتلقى صدمات تلك الكلمات، لا تتخيل وقعها على وتأثيرها النفسي وما ينتج عنها من الإحباط النفسي، هذه الكلمات التي صيغت على مدار اثني عشر عاماً طوال سنوات دراستي بالمدرسة في صورة قصيدة شعرية حزينة وكئيبة، فإن جاز للأم أن تتنمر على ابنها جاز لي أن أقول أنني ضحية تنمر طوال تلك السنوات.

أسوق لك صفات وملامح أخرى في شخصيتي فأنا رغم أني لم أنل نصيباً من الوسامة مثل أخي إلا أنني خفيف الظل مرح، أمتلك موهبة في الأداء المسرحي، ولدي قبول اجتماعي، وكما يقال لي “كاريزما خاصة” فلا تحلو الجلسة مع الأصدقاء أو العائلة خصوصا إلا في وجودي،
فقد كان هناك مصادر أخرى من الدعم أتلقاها ممن حولي، فأنا لست معقداً نفسياً لأن هناك من كان يساندني حق المساندة بخلاف أمي وأبي، وهي خالتي، التي رغم أنني أسكن في إحدى المحافظات النائية وهي كانت تسكن في محافظة القاهرة وتبعد عني مئات الكيلومترات إلا أنها كانت الشخصية الأساسية المؤثرة في حياتي،

بدونها لا أعلم إلى أين وكيف كان سيكون المسير والمصير، فهي دارسة لعلم النفس وتعمل في الإرشاد النفسي بالتربية والتعليم بمدارس مصر، وهي قبل دراستها العلمية كانت تعرف إنسانياً كيف يجب أن يكون حب الأبناء رغم أنها لم تكن متزوجة ولم تعرف لإنجاب الأبناء طريقاً، فهي لها من الطلاب الكثيرون والكثيرون يلجأون إليها في مشكلاتهم النفسية.

أحببتها حباً جماً وأحبتني حباً لم أراه أبداً، ساندتني وأشعرتني بقيمتي في الحياة، هي الوحيدة التي كانت ترى فيّ أشياء إيجابية وأنني سوف أكون شخصاً له قيمة، كانت دائمة الشجار مع أمي بسبب ما تصفني به وبسبب إحباطها الدائم لي، لولاها ما كنت ولن أكون.

مرت السنون وجاء السنة المصيرية، سنة المصير المحتوم، الثانوية العامة،

كان يصيبني ما يصيب جميع الطلاب من الفتور والضعف من آن لآخر كانت السنة بمثابة المعركة النهائية والفاصلة ليس بيني وبين التعليم والتحدي، ولكن بيني وبين والداي،
أعرف أنني لست من المتفوقين دائما ولكنني لست سيئاً كما يدعيان، فهما كانا متوقعان مني أنني سوف لا أتجاوز الثلاثة والستين في المائة،

لا أخفي عليك يا صديقي كم جرعات الإحباط النفسي التي أتجرعها يومياً عندما ترن صدى تلك الكلمات في أذني وهي تقال للآخرين من أقاربي على مسمع مني وأمي تحادثهم على الهاتف: “ده فاشل- ده أخره 60%-
أخوه كان مش مواظب على المذاكرة باستمرار صحيح لكن كان يقعد ساعتين يلم كل المنهج اللي فاته… ولد ذكي مش زي التاني ده ، ده بسبب خطه الوحش ده هيضيع نفسه” لدرجة أنني سمعت أخي يرسل لخالتي الحبيبة نموذج من خطي على الواتساب ليقنعها أن خطي سئ للغاية وأنه غير مقروء وهذا سيتسبب في رسوبي، وما كان رد خالتي عليه إلا أنهم يبالغون ويضخمون الأمر لأن الخط واضح ومقروء.

كنت أحادث خالتي بالهاتف لكي أرتب معها ظروف دراستي وإدارة وقتي وتحديد أولوياتي وأناقشها في الكليات التي أرغب بالالتحاق بها،
كانت تشجعني وتقول لي أنه ليس من المهم أن تنال الكلية إعجاب الجميع أو أن تكون الكلية مصنفة من وجهة النظر الاجتماعية الزائفة، أو من وجهة نظر مجتمع القمة التافه،
فلم تعد الهندسة أو الطب الأكثر جاذبية والأكثر قمة ولكن يكفي أن ألتحق بالكلية التي أستطيع أن أتميز بها وأن يكون هدفي ليس الالتحاق بكلية قمة ولكن أن أصل في دراستي إلى أعلى القمة. كانت كلماتها بمثابة الوقود الدافع لي كانت تشحذ طاقاتي كانت تعلو قدراتي بفعل نبرات صوتها الداعم.

جاء الوقت المعلوم وهو أوقات الامتحانات وكان قد ظهر مع الوقت بعض المشكلات النفسية من جراء ما حدث لي وكان إحدى هذه المشكلات أنني أبالغ في تقديري لذاتي، فأتوقع لنفسي ما هو أكبر من المتاح،
أتوقع أداءاً مأمولاً وليس أداءاً متوقعاً فكان في نظري هناك هوة كبيرة بين الواقع والمأمول،

وكأن هذه المشكلة نشأت بدافع افتقادي لدعم الأم فكنت أبالغ أنا في دعم نفسي، فقد اكتشفت أن دعم الأم لا يعوضه شئ وإن نلت من خالتي مساندة لم يتلقاها شاب في مثل سني، ولكن تظل الأم لها كبير الأثر في نفوس الأبناء، ومن هنا جاءت المشكلة.

أدركت خالتي كعاداتها أنني أعاني من هذه المشكلة ولكن كان الوقت ضيقاً كي تمارس معي جلساتها العلاجية المعهودة والتي بطبعها تأخذ وقتاً طويلاً فليس هناك متسع من الوقت لذلك، خافت علي من الوقوع في دائرة من الإحباط النفسي لأنني لم أقف وقتها على أرض الواقع، فكانت عندما تسألني كم تتوقع مجموعك هذا العام كنت أرد أنني أتوقع فوق 90%، وفي حقيقة الأمر يا عزيزي القارئ أن هذا ليس بالمستوى الحقيقي لي.

لك أن تتخيل أننا كنا ننقسم ثلاث فرق في هذا الأمر الأول هو فريق والداي وأخي الذين كانوا يتوقعون مني أنني لن أزيد عن 60%  بأي حال مهما فعلت، ولم العجب فهم يخسفون بي وبقدراتي الأرض دائماً،
والفريق الثاني يمثله أنا وحدي وبعض من أصدقائي الواهمين فقد كنا نرى أنني سوف أحصل لا محالة على 90% بل أكثر، ولم لا فأنا واثق جداً من استذكاري لدروسي وبذلي لمجهودي فقد كنت لا أتقبل كلمة ينبس بها أحد على الإطلاق تشير إلى أنني سوف أحصل على مجموع أقل من ذلك!!!،
وهناك فريق ثالث وهو خالتي بمفردها فهي ترى أنني سوف أحصل على مجموع يتراوح بين 80-85%، هكذا كانت تراني وفقاً لقدراتي التي كانت تعلمها أكثر من نفسي.

واتفقنا معاً على التحدي!!!

كان هذا التحدي خطة منها لكي أتزحزح من منطقة الوهم كي أستطيع أن ألامس منطقة الواقع الذي كان بالنسبة لي وقتها أشد ألماً من كلمات أمي المحبطة،

فعندما جاءت أيام الامتحانات كانت قد اتفقت معي على أن نلعب لعبة التوقعات، بأن نخطط جدول لرصد التوقعات كان هذا الجدول يحتوي فقط على توقعاتها وتوقعاتي،
وقد استثنينا توقعات والداي لأنها كانت من وجهة نظرها خارج مستوى المنافسة من الأساس، وكانت وجهة نظرها أنه لابد من المرء ألا يصدم رأسه بصخور التهوين فيقلل من قدراته ولا يصدم رأسه بصخور التهويل فيهوى إلى أسفل سافلين، والأجمل أن يصنع لنفسه صخرة على أرض الواقع ليجلس عليها ملكاً تأتي له مما تشتهي وتتوقعه الأنفس.

كنت في كل يوم أعود من الامتحان فرحاً متهللاً أتصل بها وتسألني عما فعلت وأطمئنها بأن كل شئ على ما يرام، وتسألني كم تتوقع من درجات في هذه المادة أقول كلمتي وتقول كلمتها،
ونسجل في الخانتين أمام كل مادة درجتها المتوقعة ودرجتي المتوقعة، وبعد انتهاء أيام الامتحانات كاملة قمنا بجمع الدرجات فكانت توقعت لي أنني سوف أحصل على مجموع 83% وأنا قد توقعت 92%.

لم أستطع أن أصف لك يا صديقي كمية الإحباط النفسي ومشاعري السيئة التي مررت بها عندما أخبرتني خالتي بتوقعها هذا، كنت أغتاظ منها كثيراً، ولم أعلم أن بفعلتها هذه كانت تقدم لي أكبر خدمة في حياتي، فقد طلبت مني أن أتخيل الكليات التي تقبل من المجموع الذي توقعته أنا في مقابل الكليات التي تقبل المجموع الذي توقعته هي،
وأقوم بتدريب نفسي على تخيل هذا الأمر وأنني طالب بالجامعة في إحدى كليات هي ليست بكليات القمة متخيلا أنني قد أصبحت بها متفوقاً وعُينت بها معيداً. وطلبت مني أن أحدٍّث الآخرين كثيراً بهذا التوقع الذي كان لا يروق لي، مع الوقت أصبحت نفسياً متقبلاً ذلك دون أي غضاضة، ومقتنعاً بأن التميز لا يصنعه المكان بل أن التميز يصنعه الشخص.

وجاء اليوم الموعود وظهرت النتيجة وقد كنت جالساً بالفعل على صخرة الواقع كالملك، لا أبالي بإخفاقي لو لم أحصل على مجموع فوق التسعين وكانت المفاجئة أن مجموعي كان بالفعل 83% بالتمام والكمال،
فلو أن قلب أمي توقع هذا المجموع لم يكن بهذه الدقة وبهذا الإحساس والإيمان بقدراتي.

وبالفعل تقدمت لنفس الكلية التي تخيلتها في لعبة التوقعات والتخيل التي لعبتها أنا وخالتي وهي كانت كلية الآداب قسم الإعلام بمحافظتي التي أقطن بها. دخلتها وقد أصبحت مؤمناً أن الإيمان بالشئ يحققه، وأن توقع السعادة يجلبها، وأنك إن صدقت نفسك سوف تجلس على القمة، إنك أن تجلس على صخرة الواقع خير من أن ترتطم بصخور التهوين أو تطعن بصدمات التهويل…

فلا تكن مهوناً ولا تكن مهولا فقط كن واقعياً.

وتجنب طعنة الإحباط النفسي


[latest-selected-content limit=”5″ display=”title,excerpt” titletag=”strong” url=”yes” linktext=”إقرأ الموضوع كاملا” image=”full” elements=”3″ type=”post” status=”publish” dtag=”yes” orderby=”dateD” show_extra=”taxpos_category_before-title”]

مقترح لك ...