الانتقال الآني
كتبت: منه زين
لم يأنِ الأوانُ بعد… أن أغادر…
وإلا تُدْنِي عليّ… أقتربُ…
بل وأتشبث…
كتشبث طفلٍ وليد اليوم بالحياة…
العلّةُ من كوني أنتمي إليك…
أنّك كنت دومًا… ساكنًا…
بداخلي…
أرويكَ… حديثًا لنفسي قبل المنام…
وأستشفي فيكَ الخير الذي أنتظر…
لا قيمة للعقارب ما لم تعد تعمل…
وما دمتُ عالقةً هنا…
فإن هذه وجهتي…
وأولى خطواتي للحياة…
فالحبُّ مكرمةٌ ألوذ بها… جواركَ…
إلى الأبد…
لم يجتبي إيانا إحدى قدراتِه التي ولد بها، ولم أشأ أن أولَد بتلك الخصال…
وإن المرء إذا استوطنته المعجزات… أعرضَ…
ودَنَى بمرآه لما يقال عنه… أمرًا اعتياديًا…
كوني أستطيع الفرار من حاضرٍ إلى ماضٍ… جعل مني شخصًا ممقوتًا…
تجول عقلَهُ الشرورُ وتأبى إلا أن ألين… للمصير الذي أواجه… علّه حسنٌ… علّه يزيل عنّي لعنتي…
لقد أفقت مرارًا في عوالمٍ أخرى… عسى أن أكون قد هذيتُ ولكن كل شيء له أثر…
حاضرًا حيًّا مكنونًا في صدورنا…
علّ قدومي هنا… غرضه الإصغاء… لمن يريد الاستماع… وكلّي أذنٌ صاغيةٌ…
صاغيةٌ لكل من يريد أن يسرد الأسرار التي انطمست… وسار حامليها نحو طي النسيان سيرًا لا عودة بعده…
فقد هرِمَ الزمانُ… وإني أتنقّل فيه إما لأستمع أملًا أن ألهَمُ أو أن أصيب هدفًا سعيتُ له أو لم أسعى…
ها أنا… أمام حشدٍ من الجيوش يطغون أرضًا ليست لهم…
ولا يبشر دفاع أهل المدينة عن أنفسهم بأوانٍ من فضةٍ أمام أسلحةٍ نارية إن أصابت أحدًا منهم… هرع إليه سائر أقربائه نادبين على فقيدهم الشجاع… الساذج…
الوضع يزداد سوءًا وإن الفارس المغوار الذي ارتطم جوّادُه بي خطئًا… جعلني التهيتُ بخطواته الواثقة قبل أن يضرب سيفُه ظهر الغادرين…
المعتدين…
إنها حربٌ من النوع الفريد… حربٌ تدور بين من يريد الحفاظ على تراثه وأرضه بلا تقدم… ومن تقدم بلا تراثٍ وبقيَ له أن يمتلك أرضًا يطبق عليها ما وصل إليه… فإن تراثه الثأر… من الجاهلين…
وتذكر… أن الاستيطان والتراث أقوم مما وصل إليه المعتدون…
ارتسمت البسمة على وجوه الحلفاء وهمّوا بقتل المزيد بعدما أنعش المغوار قواهم…
وانتشلهم من وسط نكباتهم المريرة…
وانهزمت الجيوش المعادية شر انهزام…
وأخذت الأحياء تحتفل وتحيي القائد… الذي وبمقتضى خطته طرد الغزاة وصان العهد الذي أخذ على نفسه…
أمام كل الأفراد أمضي قدمًا إلى القائدِ… ليشملني ضمن الذين حيّوه…
وكنت كالحجر أرتطم بالأرضِ وتدعسني الأقدام… فتتلاشى أثر أقدام الحصان الذي يحمله… وتمطر السماء مطرًا غزيرًا…
وأنا بملابسٍ ليست كافية لأدفئ بها… وتكاد تكون مهترئة للفقراء في الحي المجاور…
فإن ما أرتديه يعد طبقةً من الطبقات التي يُصنَع منها رداءً بسعرٍ رخيصٍ هنا…
وددتُ العودة إلى دياري فلا دليل ولا إشارة لمطلبٍ أبتغيه هنا… حتى أن آثار الأقدام لم تذهبها قطرات المياه… وأصبحتُ مبتلّة ارتدي ثيابًا رثة لا قيمة لها في هذا الموسم وهذا المكان…
فقط شهدت ملحمةً ممتعة وسأرحل…
استهلّت السماء أن ترتفع أصواتها فوق احتفال أهل المدينة…
وعدتُ أنا من حيثُ أتيت…
وفتحت البوابة…
لأجد النبات الذي نما فوق السور قد ذَبُلَ وانهار الجدار الأزرق فوقه ليشبعه من الجير والغبار ما لا يسعه…
سمعت صوت أمي تنادي في الطابق العلوي… داعية سائر أفراد الأسرة إلى الغداء…
فبهدوء ولّيتُها واستند رأسي المبتل على منكبها أمام الموقد…
وسألتها أن تدعو الله لي الرشد…
فدعت… وألحقت دعاؤها بسؤالٍ تعجبت به عن حالي… وملتقانا هذا كيف حدث وكيف لم تدري…
فأجبتها أنني خرجت لتلقي الدروس… وأن أحدهم سكبَ الماء من دلو على جسدي دون أن يعي…
فتابعت أمي ما تفعل دون أن يمكث برأسها أي شكوكٍ… ولم تكن تذكر إلا أن يكون لها لسان صدقٍ بعد مماتها…
وكالعادة يعتصر فؤادي ألمًا كلما صادفتُ في كلام أحدهم سيرة الموت…
رغم أنني أشعر أنني مثلهم… مثل من مضوا… وأن لا حياة لي بين الحاضرين الآن… وفي عصرنا هذا…
شعورٌ ملازمٌ سامٌ… لذائقيه…
بدّلت ملابسي… وارتشفت أول رشفة من الحساء الساخن الذي أعدّته أمي… بينما تصفحت مواقع التواصل الاجتماعي بلا هدف… أو قد ينحصر الهدف جلّه في التغذية البصرية التي أتلقى من الفنانين الأثرياء… بأذهانهم… وقلوبهم الطموحة…
راجية أن يكون فيهم ملهمي…
وقد كان…
إلهامًا بلا مقدرة… فوات فرصة أخرى من الفرص الذهبية… التي من نتاجها قد أحصل على عملٍ فنيٍ يذهل الجميع…
واستحوذت الأفكار السيئة عقلي… وكيف أني شخص لا إرادة له… واضمحلّت قدراتها إلا أن تتنقل بين الأزمنة وتراقب الناس في صمت تام…
وعلى حين غرةٍ! تُزَاحم المشاهدُ بعضَها وتتصارعُ مع الحَكَمِ الظالمِ آنذاك… لأجد أن الفارس هو قصة اليوم…
وأن المبادرة… هي المكسب…
خطٌ يوالي خطًا ولمعت عينيّ وجفت دموعها… من شدة السعادة…
لوحة فنية جديدة أسميتها “الفارس”…
وعقب ارتضاءٍ وهبه الله لي في ليلةٍ ليست كسواها… أنام هادئة…
لأستيقظ فجأةً في بئرٍ مهجورٍ لأعوام… فأجد الحبال معلّقةً بهِ فأمسك بها…
وأخرج لأجد الصمت لغةٌ أصليةٌ بالمحيط…
لا يوجد هنا إلا الهاوون… من ضاعت أحلامهم هباءً… واصطدمت رقابهم بأرفف السبات دون سابق إنذار…
ومنهم من عزم وباتت نواياه شفيعًا له…
أرواحًا كما تآلفت آنفًا… قد التقت…
بينما لا يدار بينهم الحديث…
فقط التقاء صامت لثواني… ثم يذهبون فرادى إلى وجهات شتى…
أتاني الصبي ذو القبعة البيضاء… سائلا إياي كيف لي التواجد بينهم وأنا حيّة…
بل كيف عرف الطفل أنني حيّة؟
رددت بسؤال في خاطري ليرد الصبي… أنني وبوضوحٍ الوحيدة التي تتنفس…
فكرر سؤاله…
ولا يسعني أن أقول إلا أنني لا أعلم فعلا لأي سبب أنوي أن أكون بينهم…
رغم أنني ظننت نفسي بينهم…
هذه هي الإجابة!
تواترت أصوات الرياح والصبي قد آوى إلي لأضعه تحت ذراعي…
فلم يمكث إلا قليلا وآثر أن يطيح الهواء بروحه بعيدا بدلا مني…
وجاءني كهلًا يعلّمني أن الحياة كنز… وأن الوقت إن لم يمر في الاستثمار لن يكون لي كنزًا بينهم في يومٍ من الأيام…
أصبحت أضحك ساخرةً من كلامه… فما الكنز؟!
تراجع حتى رأيته هائمًا بين الأشجار…
وقمت من جانب البئر واعتدلت… فلا مخرج…
تحطمت ساعة اليد…
وتكلّم البئر مخبرًا إياي أن اللغز في الكنزِ… أدركه أصيب حظي وأعود إلى دياري…
وإن حدث العكس… لهويت بين الهواة في هذا العالم الذي يسوده الصمت…
غيمةٌ توارى خلفها عقلي وتعتمت بصيرتي… ألا إن كنتُ قد ضللت فإن مسعاي لا زال له فرج…
وفتحت البوابة مرة أخرى…
فأهرول نحوها كمن نجا من كمدٍ طال لقرون…
ذات النبات الذابل… ولكنه حي!
والجدار سليم!
سرت قليلا لأجد أن جدتي قد طهت الطعام وجدي يقرأ الجريدة… أمام تلفاز من الطراز القديم…
لا أجد تفسيرًا واحدًا لهذا الخلل الذي يحدث…
التفوا جميعا حول مائدة الطعام… ومن ثم أتت جدتي بالتحلية… فقدّمت لهم الكعك وأبوا إلا أن ينسفونها حتى الفتات…
وبينما أقف في حيرة من أمري… رأيت صورة الفارس على هيئة ممثلٍ في التلفاز… يستضيفونه على قناة لم يكن هناك إلاها… فدار الحوار وسمعته يقول إنه يبحث عن فتاة لوّحت له بين الحشد وارتطمت رأسها بالأرض بعد أن دفعها البعض متلهفا لأخذ توقيع منه…
شردت للحظاتٍ… وخفق قلبي… وسارعت للعودة إلى البوابة فارتطمت بذات الأرض التي كانت حلبة للمعركة…
ومدّت يد الفارس لتلتقطني… فاعتدلت في غفلة عن شكره…
ورأيته ينفض عن كتفي الغبار… ويلامس بإصبعه طرف عيني فيزيل به شظية من شظايا الخشب المتناثر في الأرجاء…
كدت أضجر من صمتي حتى بادر هو الحديث… واستعاض عن صمتي بكلماته الرقيقة قائلا “عدتِ”
رددت بصوت حاد غاضب “نعم عدت…”
ضحك وتمتم بعض الكلمات… فزاد إصراري لمعرفة ما نطق لسانه به… فرد قائلا “لديكِ روح المحارب… لكن ليس لديكِ رداؤه” وسألني من أين أتيت…
فأخبرته روايتي بإيجاز علّني أراه يضحك مرة أخرى… ولكن على العكس تماما…
فقد جدّت معالم وجهه ونظر إليّ سائلا “أتودين أن أعلمك القتال بالسيف؟”
وتركته ليرشدني فلم أجد أرقى من السيف لأحمله وأتقي طرفه…
ردد كلامه مائلا بشفتيه قرب عنقي وقال “أنتِ مقاتلة… أردت فقط من يعيد إحيائك… وإنني سعيد الحظ”
فضحك فأفلَتُّ السيف من يدي ووقفت أمامه بينما انحنى لي…
قلت “كيف ولا أعرف لمن أقاتل ومتى أقاتل”
قال “كيف وقد قاتلتِ لأجل أحبائك والآن لنفسك ولي”
قلت “لك! أما لك هذا الحديث الغير مثمر!”
ضحك وقال “أعطني مما تملكين”
جلست إلى جواره وبكيت ولم أشأ إلا العودة إلى الديار…
اصطحبنِ إلى ديور القوم وشارف على تقديمي لهم… فهلل الناس وصاحوا يقولون “يعيش القائد”
وشعرت أنني أصبحت غريبة بينهم مرة أخرى… ولا أرى مثلهم إلا القائد.
أيعقل أنني قد عثرت عليه… ذلك ولم أستطع الفرار منه!
التفت لي وهمس في أذني “ما الكنز؟”
شحب وجهي ووددت لو عرفت الإجابة…
فضم قبضته وضرب الحائط من الغضب… ومضى قدمًا …
فعجلت إليه قائلة بعفوية مطلقة “أنت”
سخر مني وقال “أنا الكنز!”
قلت “وما الكنز إذا!”
قال “الكنز شيءٌ تصنعينه أنتِ، أنا لست ملكك، فما الكنز؟”
جال عقلي الكثير من الأجوبة…
ولم ألبث إلا وأن طرحت إحداهم قائلة…
“الماضِ كنز… وأنا لا أملك ماضٍ جدير بالذكر إذ أتيت هنا لأتعلم منكم… وإذ أتيت هنا لأستمع لمن لم يستمع له أحد… أتيت هنا لأعيد إصلاح أخطاء حدثت آنفا… وهو أنني تركتك دون السعي خلفك كمن فعلوا ذلك… أنت وجهتي… وأنت من أحييت بداخلي شعورًا لم أعثر عليه مسبقا… ألهمتني فصنعت لوحة… وذهبت وعدت لأجد نفسي بمواجهتك مرة أخرى… تلك هي فرصة تالية… وإني لن أضيعها”
نظر إلى ورد قائلا “أوردتِ البئر بعد؟”
قلت “كيف عرفت كل هذا؟”
قال “أفصحت عنك عينيك وإني مطّلعٌ ببصيرتي عليكِ… وقد أتيت خصيصا لأعيد لك ما فقدتِ”
قلت “وما الذي فقدته؟”
قال “معنى الحياة”
قلت “مر… طعمها مر…”
قال “أولك أن تقولي هذا بعدما وجدتني وبعدما أدركت أنك مقاتلة وبعدما حتى عرفتي أن الصبي والعجوز كانا كنزك وأنا كنزك ألسنا واحدًا!؟”
صرخت به غاضبة ولوهلةٍ أدركت أنني التقيته كثيرا في هيئاتٍ عدة… ولم أعي ذلك…
فارتخيت… وبعدئذ لم أعي ما أقول…
فقرب إلي وقال “أنت أيضا مبتغاي… لم تأتِ مع الحشد هيبة وتوقيرا مثلهم… بل أتيت لتلقي الحماية… فأنت مبعثرة وهذا ما جعلني أدركك ثانية… فأنت أيضا مقاتلة… وقد آنستني بحضورك… فلا تذهبي كما البعير التائه في الصحراء”
ضحكت كما ضحك فقال “أنت مأمني”
وفتحت البوابة ولم تتسنى الفرصة للبقاء مدة أطول…
ولكنني أفضل البقاء… عن الرحيل… فهنا شعرت بالحياة… هربت كثيرًا ولم أنسب لأي عالم آخر حتى وطئت قدم الجواد ومن يحمل…
ربما هذا هو العالم الذي أنتمي إليه حقيقةً وكل ما دون ذلك سراب.
أمرت أن أقاتل… وهذه رحلتي… وهذا حليفي…
[latest-selected-content limit=”5″ display=”title,excerpt” titletag=”strong” url=”yes” linktext=”إقرأ الموضوع كاملا” image=”full” elements=”3″ type=”post” status=”publish” dtag=”yes” orderby=”dateD” show_extra=”taxpos_category_before-title”]
كل ما يتوجب عليك فعله وأنت تقرأ لي؛ أن تنسى ذاتك قليلا وتبدأ جديّاً في تخيل نفسك كبطل ممن أكتب عنهم، سأكون سعيده إن شاركتني نتيجة قراءتك ..