جابر بن حيان .. العالم العربي والعبقري
كتبت : تسنيم سعيد
لم يكن الدين الإسلامي يومًا عائقًا عن التقدم والعلم الدنيوي، ولم يقتصر العرب والمسلمون على تعلم العلوم الدينية زاهدين في غيرها من العلوم، فهذا جابر بن حيان نموذجًا مفصحًا عن عبقرية العرب وقوتهم العلمية التي طورت وأثرت في علوم الدنيا مظلليها بسماء علوم الدين ورابطيها بقواعده ومناهجه وأسسه.
برع ابن حيان في علم الكيمياء رغم قدم الأمد وانحسار الإمكانيات والعدة، بل ورغم اعتباره خائضًا فيما وضعه السابقون تحت شعار الخرافات والأساطير، فلم يكافح بن حيان في وضع علم الكيمياء فقط واستخدامه في الطب وعلم النباتات، وإنما أثر على العقول حتى استساغته من بعد نفور ومخاوف بسبب اعتباره مجرد خرافات لا تغني ولا تسمن من جوع.
فمن هو صاحب تلك الخطى الجليلة، وما هو نسبه ومولده وحياته المكتظة بالعلم والتجارب والعبقرية الكيميائية، وما الأثر الذي تركه لنا بن حيان ليومٍ نسطر فيه تلك السطور في فخر وتباهٍ بذاك العالم المسلم العربي.
التعريف بجابر بن حيان
هو أبو عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الأزدي، وهو عالم في الكيمياء والفلسفة والفلك والطب والصيدلة وعلم المعادن والأدب.
ولد سنة 101 هـ \ 721 م على أشهر الروايات، وقد قيل أيضاً أنه ولد سنة 117 هـ \ 737 م، كما اختلف المؤرخون في تحديد مكان مولده، فمنهم من يقول أنه من مواليد شرق سوريا، ومنهم من يقول أنه من مواليد بلاد ما بين النهرين في حران، ويذهب البعض الآخر إلى أنه ولد في مدينة طوس الفارسية أو خراسان.
وهو من أبرز العلماء الذين ينسب لهم علم الكيمياء التجريبي، فقد تمكن بن حيان من استنتاج مجموعة معلومات حول الكيمياء، بفضل تجاربه وقراءاته التي ساهمت في وصوله إلى العديد من اكتشافات في مجال الكيمياء، وقد أدى هذا إلى تكنيته بعديد من الأسماء مثل شيخ الكيميائيين وأبو الكيمياء وكيمياء جابر.
نشأة وحياة جابر بن حيان
تفتحت طفولة بن حيان منبئة عن فكرٍ خاصٍ مبدع ظهر في شغفه واهتمامه بالطبيعية وإمداداتها، فقد تربى ونشأ في كنف وظل مدينته مدينة طوس وكان والده يعمل في مجال العطارة.
وقد أبدى الأب في نفسه علمًا بحكمته ونباهة عقله بأن ولده له ميول للطبيعة ينبغي أن تدرب وتعان، فلاحظ والده اهتمام ابنه بالظواهر الطبيعية وسؤاله الدائم عنها وعن أسباب ظهورها وعن الأعشاب والنباتات وطرق زراعتها وأضرارها وفوائدها….هو فضولٍ ينبئ عن دافع كريم متلهف للنتائج والتعلم.
كما وجد فيه اهتماما تلقائيًا بدراسة خصائص وصفات المعادن، والبحث وتقفي الأثر في محاولة فردية من طفلٍ للوصول إلى نتيجة حتى دون أن تكون لديه الخبرة أو العلم.
فأدرك الأب أن ابنه سيغدو عالماً ومفكراً مشهوراً وتنبأ به فبدأ يحرص على تعليمه جميع العلوم والمعلومات المتخصصة بالعطارة والنباتات والدواء والكيمياء وأيضاً الفلسفة القديمة.
علم وثقافة جابر بن حيان
رست رحلة الأسرة باليمن أخيرًا واستقر بالكوفة العالم الصغير بن حيان وسرعان ما وجد مبتغاه فقام بالانضمام إلى حلقات الإمام جعفر الصادق وعنه تلقى علومه الشرعية واللغوية.
كما أنه درس على يد الحميري في اليمن وقد علمه الرياضيات وعلوم القرآن، ويعتبر مؤرخو العلوم أنه تلقى علمه أيضاً عن طريق مصدرين الأول هو الإمام جعفر الصادق والثاني هو مؤلفات ومصنفات خالد بن يزيد بن معاوية وهكذا عن طريق هذين المصدرين درس وتعلم ونبغ في الكيمياء وأصبح مستحقاً للقب أبو الكيمياء فهو الذي وضع أسس البداية للكيمياء الحديثة.
كما درس الكيمياء والطب تحت رعاية وزراء الخليفة العباسي هارون الرشيد والذين كانوا من عائلة البرامكة وبعدها بدأ يمارس مهنة الطب بدعم من الخليفة وأي دعم ومتابعة أفضل من هذا وهو الخليفة.
دراسات جابر بن حيان
تنامت المعرفة بحرص ابن حيان عليها وتوثقت علومه وزادت خبرته بتجاربه ولكن لا نقصد بذلك علم الكيمياء خاصةً، فدراسة جابر بن حيان لم تقتصر على الكيمياء فحسب بل برع في علوم ودراسات عدة ومن أبرزها:
علم الكيمياء
بدأت الكيمياء كخرافة تعتمد على الأساطير البالية، وكان العلماء في حضارات ما قبل الحضارة الإسلامية يظنون أن المعادن المنطرقة مثل الذهب والفضة والنحاس هي من نوع واحد ينبع تباينها من الحرارة والبرودة والرطوبة الكامنة فيها وذلك نسبة إلى نظرية العناصر الأربعة: النار والماء والهواء والتراب، ولهذا رأوا أنه يمكن تحويل هذه المعادن من بعضها البعض باستخدام مادة ثالثة وهي الإكسير.
وهكذا تخيل بعض العلماء القدماء أنه يمكنهم ابتكار إكسير الحياة أو حجر الحكمة، وقد تأثر قسم من العلماء العرب والمسلمين الأوائل -مثل جابر بن حيان وأبو بكر الرازي- بهذه النظرية التي ورثها العلماء العرب من اليونان، ولكن الفرق أنهم قاموا بدراسة علمية شديدة الدقة لها، وهذه الدراسة هي التي أدت إلى تطبيق المنهج العلمي التجريبي في حقل العلوم.
وهكذا لم يتوقف بن حيان عند المؤلفات القديمة بل ساهم في تطوير علم الكيمياء التجريبية وبدأ التجارب في مختبره الخاص وطبق كثيراً من التجارب الكيميائية والتي ساهمت في أن يصل إلى الكثير من المركبات الكيميائية التي لم يكن العالم يعرفها من قبل ليدخل في عالم الكيمياء من طور المتعلم المتلقي فقط إلى طور العالم المساهم به وواضع علمه.
علم الفلك
كان بن حيان ذو حب وميل للطبيعة بشتى صنوفها وألوانها، يتأملها تأمل الملاحظ المترجم ويكتشفها ويدقق في صغائرها تدقيق الباحث المتتبع، ومن ثم فقد برع بن حيان أيضًا بعلم الفلك، وهو ما كان لدى العرب قديمًا معرفة لا بأس لهم به، فقد قال بتعالى عنهم (وعلامات وبالنجم هم يهتدون).
لكن بن حيان أسهب وأفرد وتوصل في علم الفلك إلى قوانينه وأصوله التي يمكن منهجتها، فاهتم جابر بن حيان بدراسة علم الفلك وعرّف الفلك على أنه شكل الكون الخارجي ويشمل أربعة أشياء أولية وهي الحرارة واليبوسة والبرودة والرطوبة، وعرّف جرمه على أنه الأشياء التي تملأ هذا الشكل، وهذه الأربعة أشياء الأولية هي التي بناءاً عليها تؤدي إلى تركيب الأشياء، وقد صنف البرودة والحرارة أنهما فاعلان أما الرطوبة واليبوسة أنهما منفعلان.
علم الفلسفة
يعتبر جابر بن حيان من الفلاسفة العرب المعروفين، وكان يعتبر الفيلسوف سقراط مثلاً أعلى له وقد اهتم وقدّر الفلاسفة القدماء، وينقسم التفكير الفلسفي له إلى عدة قواعد ومبادئ وهي:
- جميع الأشياء تصنف على أنها حديثة أو قديمة.
- قد تكون الأشياء سواء الحديثة أو القديمة إما غير مرئية أو مرئية.
- هذه الأشياء المرئية وغير المرئية تكون بسيطة أو مركبة.
- تعامل الأجزاء من الأشياء البسيطة بحكمها كبسيطة، أما الأجزاء من المركبة فهي لا تعامل كالأشياء المركبة ولا تحكم بحكمها.
علم الطبيعة
عمد جابر بن حيان إلى دراسة مناحي الطبيعة وخاصة الحيوانات والنباتات والجماد أو الحجارة، فقسم الحيوانات لأربعة أنواع هي:
- الحيوانات الطائرة.
- الحيوانات الزاحفة.
- الحيوانات الماشية.
- الحيوانات السابحة.
كما قسم الجماد إلى ثمانية أصناف وهي:
- مُتحجر، ومنسحق، وغير ذائب.
- مُتحجر، وغير منسحق وغير ذائب.
- غير منسحق وذائب ومتحجر.
- منسحق وذائب ومتحجر .
- غير مُنسحق وذائب وغير مُتحجّر.
- غير متحجر وغير منسحق وذائب.
- غير متحجر ومنسحق وغير ذائب.
- غير متحجر وغير منسحق وغير ذائب.
أما النباتات فجعلها في المنتصف بين الحيوان والجماد، فلها ما للحيوان من صفات، ولها ما للجماد من انعدام العقل.
إنجازات وإسهامات جابر بن حيان
يُعد بن حيان من أبرز العلماء في العصر الذهبي للإسلام وله الكثير من الإنجازات في علم الكيمياء الحديث ومن أبرزها:
- أنتج حمض الكبريتيك وسماه زيت الزاج وأنتج حمض النيتريك، وتتعدد استخدامات حمض الكبريتيك حيث يستخدم في بطاريات المركبات.
- أول من اكتشف الصودا الكاوية أو القطرون NaOH
- أول من استحضر ماء الفضة وماء الذهب.
- طوّر العديد من العمليات الكيميائية مثل التبخير، الانصهار، التبلور.
- وعن طريق عملية التبلور طور طريقة لتنقية المواد.
- صنع ورقاً غير قابل للاحتراق.
- حضّر نوعاً من الطلاء يمنع الحديد من الصدأ.
- هو أول من اكتشف المواد المعروفة بالقلويات والتي لا تزال تعرف باسمها العربي Alkali.
- أول من اكتشف حمض الهيدروكلوريك.
- شرح شرحاً مفصلاً كيف يحضر الزرنيخ والأنتيمون.
- شرح كيفية صبغ الأقمشة.
أهم مؤلفات جابر بن حيان
قال الزركلي في كتابه “الأعلام” أن جابر بن حيان له تصانيف كثيرة تتراوح ما بين 232 و500 كتاب ولكن للأسف فقد ضاع أكثرها، وهو ما جعل الكثير من علومه حال بيننا وبين وصولها إليها.
ولكن الأوربيون رغم تقدم العلوم بمحيطهم إلا أنهم ظلوا يعتمدون على كتبه لعدة قرون كما أنهم ترجموها إلى لغات عدة مثل اللاتينية في أوائل القرن الثاني عشر ثم ترجم قسم منها من اللاتينية إلى الإنجليزية سنة 1678. ومن أبرز هذه الكتب:
- كتاب الرحمة: وقد تطرّق فيه إلى كيفية تحويل المعادن إلى الذهب.
- كتاب السموم ودفع مضارها: وهو مقسم إلى خمسة من الفصول التي تبحث في شتى أسماء السموم بأنواعها، وكيفية اختلاف تأثيراتها على جسم الإنسان والحيوان، وأيضاً تطرق إلى علامات التسمم ونصح بالمبادرة إلى علاجها وبالاحتراس من السموم، كما أنه قسم السموم إلى أنواع: السموم الحيوانية مثل سموم الأفاعي والعقارب وغيرها، والسموم النباتية مثل السموم في الأفيون وفي الحنظل، والسموم الحجرية مثل السموم في الزرنيخ والزجاج والزئبق.
- كتاب السبعين: تضم سبعين رسالة تعرض جهود جابر بن حيان في الكيمياء وقد كتبت باللغة العربية وترجم معظمها في العصور الوسطى إلى اللغة اللاتينية.
- كتاب الحديد: يدور حول طريقة استخراج الحديد من أصوله الأولى.
- الكتب العشرة: تتحدث عن التصحيح بالإضافة إلى أنها قدمت وصفاً لبعض من العلماء مثل أفلاطون وسقراط وأرسطو.
- كتب الموازين: تحدث في هذه المجموعة عن نظريته الشهيرة للغاية وهي التوازن في الطبيعة.
ماذا قال الغربيون فى حق جابر بن حيان؟
أبو الكيمياء هو بلا مقارن ولا منازع، ولقد أشاد بعلمه الغرب رغم عربيته ودينه الإسلامي، وهي شهادات تعد غريبة، حيث عدوا جابر بن حيان هو أبو الكيمياء وهو مؤسس علم الكيمياء الحديثة التجريبية، ومما شهد له به العديد من العلماء الغربيين:
- فرانسيس باكون الفيلسوف الإنجليزي حيث قال عنه أنه “أول من علم الكيمياء للعالم وهو أبو الكيمياء”.
- ماكس مايرهوف حيث قال إنه يعود تطور الكيمياء في أوروبا إلى جابر بن حيان وأكبر دليل على ذلك كثرة المصطلحات التي لا تزال تستعمل في مختلف اللغات الأوروبية والتي كانت من ابتكاره.
أزف الرحيل
على عمر بلغ أرذله واستقامت مراحله واستتب فيهم من العلوم ما غطى وأفاض جاء الموت معلنًا انتهاء الأمد وحان الأجل، فتوفي جابر بن حيان في عام 815 م في مدينة الكوفة بالعراق وهو يومئذٍ عمره يناهز الخامسة والتسعين عامًا خلف من وراءه في أيامهم وساعاتهم العديد من الإنجازات والإسهامات في علم الكيمياء وعلم الفلك ولمحات أخرى من الثقافة والعلوم. ولا يزال علم الكيمياء بكل ما قدمه من إسهامات طورته يستفاد منها حتى الآن.
وكانت هذه هي سيرة جابر بن حيان بكل ما تحمله من مشوار ملئ بالانجازات،والعلم.
[latest-selected-content limit=”5″ display=”title,excerpt” titletag=”strong” url=”yes” linktext=”إقرأ الموضوع كاملا” image=”full” elements=”3″ type=”post” status=”publish” dtag=”yes” orderby=”dateD” show_extra=”taxpos_category_before-title”]
