خيطٌ من أشعة الشمس يتسلل رويدًا من شباك القطار، يروي بستان زهور ذبلُ في فستاني، نفحة من هواء كانون تلفح صدري وتفك عقدة شعري فأستيقظ!
ما كان كل هذا الهدوء!
كيف استطعت أن أغفو وهذه الضوضاء حولي وهذا الضجيج داخلي!
لحظه!
الحلم!
لم أراه!
لم يَأْتِنِي!
تنهدت، زفرةٌ خرجت تحمل كثيرًا مما أشعر به، مال فؤادي في صدري متكئًا، وتنهد!
شعرت به يستريح!
وتذكرت “شمس”، حاولت أن أُمسك شعاعًا أخفيه بها لئلا أنساها، وتذكرت الورقة التي أعطتني إياها، ففتحتها، مكتوبٌ فيها: “أن نظل نحاول للأبد، وإن فقدنا الأمل أن نصل، وإن ضللنا الطريق، وإن أفلتتنا الأيدي، أن نحاول مُطمئنين، آمنين، آمين.”
نفحة هواءٍ أخرى أطاحت بالورقةِ بعيدًا، حاولت أن أمسكها لكن لم أستطع، أتىٰ شابٌ ومدّ لي يده، هل هذه لكِ؟
رفعت رأسي لأراه، حتى قلت: أنت!
ردّ: “إلف”، اسمي “إلف”، وأنتِ آنسه “غيم”؟
بغرابةٍ رددت: كيف عرفت اسمي!
حتى استعدت تركيزي وقلت: من فضلك، أعطني الورقة!
بغرابةٍ أكثر قال: من أين أتيتِ بهذه الورقة؟
كان على طرف لساني أن أقول له، “شمس” أعطتني إياها، لكن شيئًا منعني أن أرد، فسكتّ!
حتى طال الصمت الذي قطعه هو قائلًا: في قطار الصباح كنتِ قد نسيتي كتابكِ على نفس هذا المقعد، لا أحبذ أبدًا أن يضع أحدهم حبرًا غير حبر المطابع في الكتب، لكن هذه المرَّة كان له فائده، لكن تشرفنا آنسه “غيم.”
ورحل!
انظروا كيف قال “غيم!”
كأنه يمطر!
ماذا!
أفيقي يا غبيه، من هذا!
ردّ صوتٌ داخلي بلُطف: “إلف.”
توقف القطار، لامست غبار القاهرة -التي لم تحبني، ولم أنتمي لها يومًا- في أنفي، ورأيتها آتيةٌ من بعيد، “شمس” تأتي وشمسٌ تغيب ..
لم أكن أملك في فمي كلمةً أقولها فلم أنتظرها، رمقتُها بنظرةٍ أخيرة، ونزلت عن القطار، وزحمة القاهرة!
أمسكت حقيبتي وقلت: كل هؤلاء البشر، وأشارك الطريق حقيبه!
لم أكن أعلم إلى أين وجهتي، لأني لم أملك وجهة يومًا، مددت يدي أمامي، يسار أم يمين؟
يمين؛ دائمًا، دائمًا أختار اليمين، هكذا بدون سبب أحب يدي اليُمنىٰ!
قادتني يدي، لأنها منذ أن أفلتها الجميع، تشعر بالوحده، أشغلها أحيانًا حتى تشعر أن شخصًا ما يهتم لأمرها، ويشاركها العمل، أما عني؟
فأنا اعتدت.
فزعت في رأسي التساؤلات فجأة!
ما كل هذا الخوف؟
متىٰ تسلل إلىٰ قلبي هكذا وجعلني أخاف كل شيء؟
كنتِ أفضل، أهدىٰ وأرقّ، متى حدث كل هذا بقلبي؟
حتىٰ رفعت صوتي: إلى أين الآن؟
بالتأكيد إلى متجر “العمّ ماركو”، قلتها بشغف.
ونظرت إلى حقيبتي، هيا بنا إذًا!
“العمّ ماركو” ليس من هنا، لا يفهمني ولا أفهمه، لكنّه يشعر بي، ويسمعني، وهذا ما يهمني!
أعطيته تذكارًا من “مَلوي” له خصيصًا، شكرني بغمزةٍ بعينه اليسرىٰ اعتدتها، فابتسمت.
قدم لي القهوة، تعرف أني لا أحبها، قلتها بهدوء.
لم يرد، حرك رأسه لي، أن أعلم.
لكن مذاق القهوة في أنفي أصدق دليلًا وأبقى طويلًا، من أن أحتسيها ثم إلى معدتي وانتهي.
قلت: أعلم أني أكذب، أنا أكذوبة كبيرة، حياتي كلها أكذوبة، وأنا أعلم.
لكنّي لا أعلم لِمَ كل هذا يحدث معي أنا تحديدًا؟
ما الذي رآه الألم فيَّ فبقى؟
لكن؛ شيءٌ ما يدفعني لأظل أعيش كذبةً بدلًا من أن أفنىٰ، أُحس أني لم أكن يومًا “غيم”، أنا الإعصار، لكنّي أُفضِّل أن أكون الغيمه، حتى وإِلَمْ تمطر!
تنهد وابتسم، لم يقل شيئًا، أعلم أنه لن يقول، ولست أنتظر، لا أنتظر شيئًا أبدًا!
إلا هو ..
ابتسمت في المقابل، وقبل أن أودِّعه، شكرته على القهوة، وقلت: أنا أعدك، سأظل أحاول جاهدةً أن أصدُق يومًا، ورحلت.
أنا لم أرحل يومًا عمدًا عن أحد، كنت دائمًا أواري سوئتي، أتوارى خلف عذر، يقيني مُر التبرير، أخفي عاهةٍ عن نفسي من عيونهم، أيَّ شيء إلا أن أرحل عمدًا!
لكنهم فعلوا ..
يواريني شباك النافذة من الناس لأنه لا مقابل له، إلا السراب ..
فتحت الباب تنهدت، كل شيءٍ كما هو، الزرع، النافذة وهواؤها، المكتبه، والسجاد، إلا شيئًا ..
لحظه!
صورة “شمس!”
على الأرضِ، مكسوره!
بكيت!
يا حبيبتي!
كأني فقدتكِ اليوم!
اليوم يا “شمس”، فقدتكْ!
اليوم وفي هذه اللحظه تمامًا كذبتِ وأنتِ الصادقه، وصدقت الحقيقه الكاذبه، وعدكِ الصادق كذب!
اليوم!
اليوم فقط يا “شمس!”
على السجاده البنيَّه نمت، كأني أحمل في صدري فراشه من خفته، لا قلبي المُثقل!
اليوم فقط، أمطر الغيم، بدون شمس!
اليوم بكيت فقدكِ يا “شمس”، اليوم أُريت الحقيقة بأم عيني، صدَّقتُها، أنا التي اعتدت الكذب حولي.
اليوم يا “شمس”، الغيمُ أمطر بَعدكِ بُعدك، روىٰ عطش الأرض البور، علىٰ أمل أن ينبت من الشوك ورود تملئيها أنتِ منكِ نور.
اليوم فقط يا “شمس”، استطعت أن أعِد “العمّ ماركو” أن أحاول -ولأول مرةٍ- لأجلي.
لا أنساهُ أبدًا يا “شمس” لا أنسىٰ شيئًا يخصك بأي طريقه، لا أنساكِ أبدًا يا “شمس!”
حتى علا صوتي وارتفع: سأغفو الآن يا “شمس”، آمل في اللقاء الأخير، والوداع الأول.
ظلام!
ياإلهي، عمَّ الظلام وطغىٰ، لن أتحمل أكثر!
تسرَّب شعاع صغير من آخر الممر، وظل يتسع!
لحظه، نورٌ في الحالكات لي!
شمس!
شمس النور، لا الشعور، الشمس سطعت، والأرض تنبت وردًا، يرويها شخصٌ ما، لا مطر!
من أنت؟
قال: “إلف”، اسمي “إلف”، وأنتِ آنسه “غيم”؟
حتى استيقظت هادئة، نومتي الهانئة الثانيه، أليس كذلك؟
هل نعتاد؟
من هذا؟، “إلف”
شابُ القطار!
حتى رن جرس الباب!
كم الساعه!
إنه النهار قد حلّ، الثانية عشره؟
نمت كل هذا، بدون أن أفزع!
فتحت الباب!
حتى شهقت!
“إلف!”، أنت!
كيفَ الغيمُ بعد المطر؟
ماذا!، كيف عرفت هنا، كيف أتيت، كيف عرفت أني هنا أصلًا، وكيف ..
اهدئي، سألت “العمّ ماركو.”
هل تعرفه؟، كيف تعرف أنه يعرفني أو أنني أعرفه، كيف ..
“غيم!”
اهدئي!
اتصلت بالطبيب، قال أن هذا أنسب وقتٍ نحاول فيه، ساعدي نفسكِ يا غيم، أرجوكِ!
تذكرت وعدي “للعمّ ماركو” أمس، وشمس الصباح و”شمس” المساء، ونور الحلم والصورة على الأرض، تذكرت أمس كله، إلا أمر “إلف”، نسيته.
شيئًا ما بداخلي كان يقول: أنتِ لستِ كاذبة يا غيم، الحياة هي التي لم تصدق، وعدتكِ بضوءٍ في آخر الممر، وكذبت!
بداخلكِ أملًا أشعث، استغليه، لينير ظلام ما قبع حوله، شعلةُ نور من ضوء الشمس، ستنير العتمة وتنبت الزهور، “غيم” هيا!
ويبدو أنني كنت قد اعتدت الهدوء فعاد الضجيج أقوىٰ لأنِّي حاولت تخطيِّه فغضب عليّ، وضوضاء الشارع، أصوات الناس، خبط رأسي، و ..
توقف السائق!
ماذا حدث؟
زحمة سير، يبدو أنها حادثه!
لحظه!
حادثه!
حتى زاد الضجيج في رأسي بوغزٍ في صدري، وعلا صوتي، “شمس!”
كان “إلف!”
بدت المشاهد كلها مشوشه، معكوسه!
كيف وصلتُ إلى هنا!، شمس، السياره!، أنا حقًا أحبك يا إلف!، لم يبقى لكِ سواكِ يا شمس!، أعدكِ أن يألف الغيم شمسه فيبقىٰ ليصبح أقوىٰ، وعدتِنِي أن تبقي، و ..
صرخت بعلو ما فيَّ من صرخه، “إلف!”
وظلام ..
ثمَّ ..
غرفةٌ بيضاء ..
رائحتها غريبة، لكنني أعرفها ..
أُحسُ أن جسدي هزيل، لا أقدر حتىٰ أن أعتدل في جِلستي، حتى فُتح الباب، ولفحة هواء!
صوتٌ مألوف: ماذا الآن؟، أفضل؟
حاولت أن أفتح عيناي من شدة الضوء الآتي من الباب الذي فُتح، لكنّي فشلت، ففضلت ألا أرد.
حتى قال ذات الصوت: غيم؟، تسمعيني؟
حركت إبهام يُمناي، فشعرت أنه ابتسم، وأُغلق الباب.
تشويش، كل ما أشعر به الآن وأراه مشوش، ليس مظلم، لكنَّه مشوش!
رُحت للنوم على إصرارٍ مني، هكذا أفضل.
“شمس!”
أوحشني بُعدك، أوحشتني بَعدك!
بحنو قالت: أنا هنا دائمًا يا “غيم”، وأشارت بسبابة يدها اليسرى نحو صدري.
ورحلت.
فسمعت صوتًا جواري يقول: حاولي يا غيم!
من أجل “إلف”، هو دائمًا ما كان ينتظرك!
لم تكن “شمس”، ففتحت عيني!
“عَبِدْ!”
أنا هو، أنتِ بخير؟ سألني بزهو.
لم أرد، فسبق: إن كنتِ تقدرين “إلف” يحتاج أن يراكِ، إن شعر بكِ فقط سيكون على ما يرام، فقط حاولي يا “غيم!”
أرجوكِ!
أنا لا أفهم شيئًا، لكني مشيت خلفه دون أن أنطق ببنت شفة.
حتى رأيته، انهارت أعصابي، هل هذا “إلف”؟
حبيبي “إلف”؟
شيءٌ ما شعرت به، هو الذي لفظ “حبيبي” لا أنا.
أمسكت يده، من أطراف أصابعه -كما كان يحب- وبيدي الأخرىٰ أمسح على يده، بوهن قال: “غيم”، أرجوكِ لا وقت، يجب أن تذهبي للطبيب.
سبقني “عَبِدْ”: ارتح يا “إلف”، سنذهب معًا.
أخرجنا الطبيب، قال أنه بحاجةٍ إلى أن يرتاح، لن يرتاح إلا بيدي، أقسم لك، خرجت بهدوء.
قبل أن يتحدث: “عَبِدْ”، سنذهب للطبيب.
أخذني له، عند الباب قال: سيتصل هو بي عندما تنتهي، “غيم!”
أرجوكِ حاولي!
كنت أريد لو أرد، لكن لم أفعل، هززت له رأسي أن نعم، ورحل.
دخلت علىٰ صوتٍ يقول، تبدين في حالةٍ أفضل من الصباح، كان نفس الصوت في الغرفه.
لم أرد، جلست فقط.
قال: هذه محاولتكِ الأخيرة، الكذب لن يُفلح أمرًا تفعليه، اصدُقي مع نفسكِ، ستَصِلِي.
اتجهت نحو النافذه التي لم يكن في مقابلها شيء سوى لاشيء وقلت: “شمس” ماتت.
منذ حادثة “مَلوي”، ومنذ ذاك الحين وأنا أصنع المواقف في خيالي، أنا موهومه، مريضه وأعاني، ولا أحاول، “إلف” يحبني كثيرًا لكن لم يجنِ مني سوىٰ الألم، لا أستطيع حتى أن أقدم له العون ليُفلح في مساعدتي، صداع رأسي ليس طبيعيًا وإنما من شدة الصراعات فيه -تلك التي لا أقوَ علىٰ إيقافها-، الأمر ليس بيدي، أنا فشلت.
أدرت ظهري ونظرت له: هل هذا يكفي يا دكتور؟
بهدوءٍ مبالغ ردّ: لا.
أنتِ تحاولين، مجيئكِ هنا محاوله، الكتب والورق و”مَلوي” محاوله، القطار، المشفى، الزحام، كل هذه محاولات، تَسعِينَ في إثرائها والعودة منها بفائده.
أنتِ تحبين ألف ..
قاطعته: كنت!
اعتدت أن أترك كل ما أحب، ألا أتشبث به يومًا فيرحل عني مخلفًا وراءه زوبعة لن تهدأ، وشلال ذكرياتٍ لن ينضب، وفقد!
ولأن الأشياء الجميلة عندما نحبها، ننتظرها وعندما ننتظرها لا تأتي، إلا أن تبهت في أعيننا ..
أحبه، لكني أخاف فقده، قررت أن أرحل أولًا.
إلف حقًا يحبك، ووعدكِ ألا يرحل، قالها بزهو.
بوهن قلت: “شمس” أيضًا وعدتني، كانت آخر آمالي، أخذت معها كل ما بقيَ من أمل، حتى المطر، جفّ، والأرض بارت، وماتت الزهور.
نظر إليّ قائلًا: غريب فستانها عليكِ زهوره تلمع!
أسقيها، كل يوم، كل زرعات “شمس”، كتبها، والسجاد!
شمس رحلت!
أعترف.
لكن كل ما خلَّفت ورائها هنا، قالها مشيرًا بسبابة يده اليسرىٰ نحو صدري.
بكيت، أكثر مما بكيت أمس، أكثر من أيِّ مرَّه.
تحرَّك لجواري، أمسك يدي كما أمسك يد “إلف” ومسح بيده الأخرىٰ علىٰ يدي، حتى جفَّ المطر، وهدئت.
بدأت: أنا أنتمي “لمَلوي” أنا من هناك، التقيت “شمس” هناك، في الميدان، كنت أبكي، أبكي “إلف”، لأنه بدون قصد رحل مني قبل أن يرحل عني.
قالت لي أنها من القاهرة، وبكت أيضًا، كانت تقول، أنها لم يمسك أحدًا يدها يومًا إلا ورحل، كنت أبكي “إلف”، وكانت تبكي نفسها التي رحلت.
كانت ترتدي هذا الفستان الذي أرتديه أنا، زهورٌ حيث كل مكان، كما تفعل هي أينما حلَّت، تعرف؟
لم أرها يومًا إلا ومعها باقةً منهم، تجمعهم لي مما تزرع، لم أحب الورد يومًا، إلا ورد “شمس.”
و”إلف”؟ قالها متسائلًا.
تنهدت: “إلف” يعني لي الكثير، أكثر مما قد يعتقد هو، أحببته كثيرًا، أكثر مما تعتقد “شمس”، كانت تظن أني أحبه أكثر منها، لا أنسى “لإلف” يومًا أنه بقىٰ حينما لم يبقَ أحد.
ولا أنسىٰ يومًا أنه فعل مثلهم. قلتها بنبرةٍ أخفض.
لم يعلق، فأردفت: تعرف؟
لم يهتم لأمري يومًا أحد، إلا “إلف”، كان دائمًا يحاول لأجلي، وأنا أكثر ما قد يأسرني في شخص هو “أن يحاول!”
كان يبحث عمّا أحب، عمّاذا أهتم، ما الذي يشغل خاطري في الخامسة فجرًا، ماذا سآكل بعد منتصف الليل.
ضحكت: مرَّه رنَّ هاتفي، كان هو، قال، أمام الباب علبة، خذيها، فتحت العلبة، كان أشهى طبق من البشاميل قد يأكله الإنسان!
ياإلهي!
تعرف؟
حاولت أن آكل مثله من “مَلوي” هذه المرَّه، لكن لم يكن مثله، أيمكن لأنه لم يكن منه هو؟
شمس كانت دائمًا تتبع حميه غذائية، كانت تضجرني!
ياإلهي!
حتىٰ يومًا، أتت لي به، ماذا سنأكل؟ سألتها.
قالت: أنهيت سعرات اليوم، سلطه إذًا.
أخذتها لنفس المكان الذي عدت له هذي المرَّه، أكلنا حتى ردَّ الطعام من معدتنا، كنت أمشي بخِفه، ليس من الأكل، وإنما شعرت أن ثقل قلبي خفّ!
كما حدث أمس.
قطع الحديث جملته: غيم، اذهبي إلىٰ إلف، يكفي لليوم.
لم أُعقِب، لم أنتظر “عَبِدْ”، فقط، ذهبت “لإلف”.
حبيبي “إلف”.
هذي المرَّه القائله هي أنا.
وجدت “عَبِدْ” هناك، لم تكلميني لآتي إليكِ؟
بسيطه، أنا بخير. قلتها مبتسمه.
نظر إليّ “إلف” من وِسع عيونه التي لا أقوَ علىٰ الإبحار فيها -وأنا غيم-، أغرق، وابتسم.
أمسكت يده كما نفعل، لكن هذي المرّه هو يشعر، تنهدت: أتتركني كما فعلت شمس؟
تعزَّم على الكلمة حتى خرجت: لن أترككِ ما حييت، سأظل لأجلكِ “أحاول” حتىٰ ابتسمت.
ضوء شمس النهار ينفذ من شباك المشفى الشفاف، وأنا أضم أغراض “إلف”، هو يتعكز على “عَبِدْ”، والطبيب.
“غيم!”، قالها “إلف”.
يجب أن تستمعي لحديث الطبيب، “عَبِدْ” وأنا في إنتظاركِ بالأسفل.
اجلسي يا غيم. قالها هو.
تعرفين أن ثلاث سنوات من المعاناةِ كانت كافيه، تعلمين أن نسبة أن تتعافي كانت أقل حتىٖ مما أتوقع، وأن معاناتكِ مع”” كانت عصيبة حقًا، وقد خسرتِ فيها ما يكفي، وآلمكِ فيها المرض، ونهش الضجيج رأسكِ الصغير، ونحل الوجع نياط قلبك، ألا يكفي!
أما اكتفيتِ من كل هذه الأدويه؟
أنتِ فقط تحتاجين أن تخلعي عن قلبكِ “شمس” الليل، وتركزي عينيكِ في شمس النهار، تخلعين عنكِ لباس اليأس، وتتجملين بلباس المحاوله، أليست تلك كلمتكِ؟
“أن نظل نحاول للأبد، وإن فقدنا الأمل أن نصل، وإن ضللنا الطريق، وإن أفلتتنا الأيدي، أن نحاول مُطمئنين، آمنين، آمين.”
همهمت: آمين ..
أمسك الطبيب -الذي إلى الآن، لا أعرف اسمه- ورقة أعرفها، ضمها بيدي، وقال: أنتِ دواؤكِ أن تظلينِ تحاولي يا غيم!
تنهدت، نظرت إلىٰ الشمس المتسرِّب ضوؤها من النافذة، أمسكت شعاعًا، ووضعته في حقيبتي البتراء، فصار لها أجنحه.
شكرت الطبيب، فقال بالمناسبة اسمي “يونس”.
ابتسمت قائلة: أعدك يا يونس أن أظل أحاول ما حييت.
وخفضت صوتي: وأن أحب “إلف”.
كان مكانًا رَحِبْ على ضيقه، يملؤه الزرع، والصبار، كان “عَبِدْ” هناك، و”إلف” في السياره، هيا بنا؟
دخلت، كأني من رواحة ريحها أجدها أمامي شمسي ونهاري، أُنسي وضيائي، الوحيده الباقيه -وإن رحلت- “شمس” غفر اللّٰه لها ..
لم أكن أعلم بمَ يتمتم “عَبِدْ”، لكنّي كنت أعلم أن “شمس” رحلت، قبل أن تعرف كم يحبها، لكن أظنها الآن تعرف، وأظننا سنلتقي يومًا، جميعنا، كما نحن الآن.
نظرت إلىٰ “إلف” الذي علا صوته: أعدكِ يا “شمس”، أن أظل أحاول، أن نظل جميعنا نحاول!
اقتربت من “عَبِدْ”، ربتُّ على كتفه، جميعنا يا “عَبِدْ”؟
لم يرد، ابتسم.
يردها لي إذًا؟، لم أقُلها، سكتّ.
“شمس!”
حبيبتي!
انتبها لي، وانتبهت هي، شعرت بها.
أنا لن أعود “لمَلوي” ليس لأنها سرقتكِ مني يا حبيبتي، أنا لم أعد أنتمي لهناك وإن كانت مني، سأظل هنا -لأنها منكِ- أرعىٰ ما زرعتِ من نبات ومن حب فيَّ، فينا، سأعود لعملي، وسأحب “إلف”، أكثر بكثير مما كنتِ تعتقدي، سأحبه أكثر منكِ يا شمس، أتسمعين؟