من هو الجاحظ | إمام الأدب فى العصر العباسي
كتبت: تسنيم سعيد
علماء العرب هم صانعو مجد الأمة العربية وواضعي تراثها الأصيل، وما بين علوم دينية ودنيوية وأدب وفكر وفصاحة وثقافة جاء الجاحظ عالمًا يخلد إسمه بخطوط الثقافة والنبوغ والحكمة، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا.
ولم يكن الجاحظ صاحب علم من العلوم مفردًا له ذهنه ومخلصًا له جهده، بل كان بستانًا جمع من العلوم ألوانًا، ومن الثقافًا أنماطًا وأشكالًا حتى صار موسوعة تتلألأ بعلمها، ويبحر الغواص بها فيجد شتى النواحي العلمية بل والدينية والعربية، فمن هو ذاك العالم الجليل الذي حفر كنيته بين علماء العرب وعظماء الإسلام؟
وما هو نسب ومولد الجاحظ وخطى حياته ونشأته.
من هو الجاحظ ؟
في سماء يوم مبارك أذن الله فيه للأمة الإسلامية أن يصنع لها عالمًا ونابغة وركنًا من أركان شموخها ولد الجاحظ، ومسقط رأسه في مدينة البصرة، وهو من بني كنانة.
تربى الجاحظ في بيئة متواضعة وبسيطة لا تقوى على تحمل مصاريف وأعباء التعليم، ولكنه بدأ رحلته منذ الصغر، فطلب العلم في سن مبكر وأتم تعلم القرآن الكريم ثم الإلمام باللغة العربية على يد شيوخ بلدته.
وبسبب نشأته يتيماً وفقيراً حال الفقر وحاله الصعب دون تفرغه للتعلم، فلم يستطع مواصلة مسيرته وطريقه في التعليم لعدم وجود مصدر رزق يميل إلى ركنه، فاتجه الجاحظ مبكرًا إلى الحياة العملية واعتمد على ذاته كاسبًا رزقه وقوت يومه.
وكان عصامياً فبدأ يبيع السمك والخبز في النهار، ولكن حبه وشغفه بالعلم لم يمنعه عن التعمق والغوص في بحور العلم وهو الصادق في عهده وطلبه ورغبته الملحة للمعرفة والتعلم، فكان ينهي عمله بالنهار، ويذهب إلى دكاكين الوراقين في الليل ويقرأ منها الذي يتيسر له.
وباستمرار الخطى تكمل الرحلة، فقد صار الجاحظ بذلك جامعًا كل الثقافات السائدة في عصره من عربية ويونانية وفارسية، ولم يكتف بذلك فقط بل شرع في تعلم العلوم الحديثة والقديمة، فالولع بالعلم لا يفرق بين علم وآخر.
وأما عن اسمه فهو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزازة الكناني الليثي البصري، والمعروف بالجاحظ، فالجاحظ هو لقب وكنية له لا اسمه، وقد سمي بهذا الاسم نظراً إلى جحوظ عينيه كما كان يسمى أيضاً بالحدقي بسبب نتوء واضح كان في حدقتيه ولكن اسم الجاحظ هو الذي علق وانتشر واشتهر به.
وهو من أكبر الأدباء العرب فهو إمام الأدب في العصر العباسي الثاني، كما أنه كان حاد الذكاء وله آراءه في اللغة والأدب ويتميز بقدرته على الكلام الفصيح المرصع بالبلاغة والفطنة الأدبية، وقد وضع طريقة بالإنشاء اشتهرت باسمه، وبسبب هذا فقد اعتبر إمام المنشئين وقدوتهم في ذلك العصر مثل ابن المقنع الذي كان إمامهم في العصر الأول.
وأما عن ولادته فلم يتم تحديد تاريخ ولادة الجاحظ بدقة حتى أنه هو نفسه كان لا يعلمه، وقد قيل إنه وُلد سنة 150 هـ في خلافة المهدي ثالث خلفاء العباسيين وقد استند المؤرخون في هذا التاريخ على قوله (أنا أسن من أبي نواس بسنة، ولدت في أول سنة خمسين ومائة وهو ولد في آخرها).
ولكن تاريخ ولادة أبو نواس نفسه لم يكن معروفاً، لذا فاختلفت الأقوال وقد قيل إنه ولد سنة 159 هـ، و163 هـ، فيبقى تاريخ ولادته غير معروف ولكن تاريخ وفاته مؤكد وهو سنة 255 هـ، وقد توفي عن عمر يناهز التسعون عاماً أو بضع وتسعون
نشأة وحياة الجاحظ
ترعرع الجاحظ ونشأ في عصر مزدهراً بشتى العلوم العربية والإسلامية حيث ارتقت اللغة العربية حينها لمكانة رفيعة، فكانت الأسواق الأدبية منتشرة وكان يقام بها حلقات للشعر ويقدم بها كل من بحور اللغة والأدب مصطفاها وثمينها وصحيحها، ومن أبرز هذه الأسواق هو سوق المربد.
كما شهدت تلك الفترة نشاطاً في حركة الترجمة والنقل عن الثقافات غير العربية والأجنبية إثر اختلاط العرب بالعجم وتداخل الثقافات الغربية مع العربية، فبكل تلك العناصر أصبحت الدولة الإسلامية نفسها في أزهى عصورها نهضة ورقي في كافة مجالات الحياة، وساعد الخلفاء والوزراء في ذلك العصر على تفشي العلوم والمعارف وانتشارها بتوفير سبلها.
وتتلمذ الجاحظ على أيدي أبرز علماء وفحولة ذلك العصر في العلم والأدب فقد تعلم اللغة والأدب على يد الأصمعي وأبي يزيد الأنصاري وأبي عبيدة وغيرهم، وقد كان أستاذ ثقافة نظام الاعتزال الذي يهتم بالاطلاع على الديانات الأخرى ومعرفتها معرفة تامة ولهذا فقد درسوا الفلسفة اليونانية ودرسوا ثقافة أرسطو ثم أخرجوها بعد ذلك بمنحاهم الديني.
وقد كان الجاحظ بمثابة موسوعة علمية وأدبية تمشي على قدمين حيث كان شديد الولع بالقراءة ونهل من جميع مجالات العلوم وكتب بها مثل علم الكلام والأدب والسياسة والنبات والحيوان وقد أثر اندماجه بالمجتمع ومخالطته له بمختلف فئاته ومجالسته للأدباء والملوك بشكل واضح على غنى معرفته وزيادة تجاربه.
علم وثقافة الجاحظ
كانت حياة الجاحظ محفوفة بالصعوبات وضيق الحال، فقد كان يعمل ويتعلم في وقت واحد في كفاح للحصول على المال والعلم، وكان يحضر الدروس في المساجد ويتواصل مع الشيوخ والأئمة لأخذ العلم عنهم.
كما خالط كبار الترجمة وأعلامها وقرأ من الكتب المترجمة، لكن المكتبات العامة وقتها -أواخر القرن الثاني للهجرة- لم تكن موجودة كما كانت الكتب نفسها نادرة وباهظة الثمن، وكما ذكرنا فإن إمكانيات الجاحظ المادية لم تكن لتخضع له الفرصة باقتناء هذه الكتب لذا كان أساتذته وأصدقائه يوفرونها له ويضعون مكتباتهم تحت تصرفه لما يرونه فيه من الشغف وطلب المعالي من العلم.
فسار الجاحظ ينهل من منبع شتى العلوم ولم يقتصر في تعلمه على علم واحد بل أبحر في العلوم التي كانت معروفة في ذلك العصر، فتعلم ودرس المنطق والفلسفة والرياضيات والأخلاق والفراسة وغيرها الكثير وقد نجح في أن يبدع بها جميعها دون إفلات لعلم دون آخر.
وبهذا ترسخت له ثقافة غنية غزيرة، وبعد هذا قرر الجاحظ شد الرحال إلى بغداد ليحظى بمزيد من المعرفة والاطلاع واتصل هناك بكبار العلماء من رجال الدين واللغة.
أفكار الجاحظ ونزعته العقلية
تميزت مدينة البصرة في العصر العباسي بنزعتها العقلية والتي تعتمد على تحكيم العقل في كل الأمور مثل الأساطير أو الأقوال المأثورة أو حتى الحقائق، وأن يتقبلوا نتائج العقل حتى لو خالفتها ظنونهم أو اعتقاداتهم.
وبالطبع تأثر الجاحظ بهذه النزعة التي كان مستعداً لها بالأصل بسبب نشأته الثقافية وكثرة مطالعته وقراءته وحبه للاطلاع.
وقد اتخذ من أسلوبهم طريقًا لمنهجه بعدما قومه وترك منه ما خالف الصواب والدين، فانتهج في كتبه ورسائله أسلوباً علمياً دقيقاً يعتمد على الشك ثم النقد ثم التجريب والمعاينة.
أبرز مؤلفات الجاحظ
خط قلم الجاحظ في كل ما وصل إليه من العلوم تقريبًا، فكتب في شتى العلوم والفنون الأدبية ما يقارب ال 360 مؤلفاً، وكان أسلوبه أسلوب الأديب العربي الفصيح والعالم الماهر، فتميزت كتبه بأنها جمعت بين المادة العلمية والبلاغة، فصاغ العلوم بأدب وفصاحة وبلاغة تجعل القارئ يتجاذب أطراف الحديث مع الكاتب ويغوص في أساليبه، فلا يشعر بالملل أثناء قراءته له بل بالمتعة من تشويقها والنوادر والسخريات التي كان يدخلها في كتبه.
ومن أبرز مؤلفات الجاحظ ما يأتي:
- البيان والتبيان
لعل كتابه هذا من أشهر ما يرد على الأسماع عند ذكر مؤلفات الجاحظ، وهو كتاب نصنفه باللغوي العربي، فهو مختص بأقسام وعلوم العربية.
وهو مؤلف من أربعة أجزاء تحدث فيه الجاحظ عن موضوعات مختلفة ومتفرقة مثل فن القول، وعلم البلاغة والفصاحة، وعلم الأدب والبيان، وآفات اللسان ووضح عيوب الناس في النطق مثل اللثغة واللكنة وغيرها.
كما أنه خصص باباً للخطابة بسبب أهميتها في عصره واعتبارها رمزاً للفصاحة والبلاغة وأيضاً من طرائق الجدال، فتحدث في هذا الباب عن قواعدها وذكر شيوخها وعلمائها.
كما بيّن صفات الخطيب الفاشل عن طريق ذكر عيوب الخطابة وبيّن صفات الخطيب الناجح. بالإضافة إلى أنه ذكر عدداً من نماذج الشعر والحكم وغيرها وقد جمع في كتابه بين الجد والهزل وهذا ما جعله مميزاً ونادراً.
- الحيوان
تميز وأبدع وابتدأ الجاحظ في علم الحيوان بهذا الكتاب، حيث يعتبر أول كتاب جامع لعلم الحيوان ويتحدث عن طبائع الحيوان والذي ورد فيه من قصص وأخبار ونوادر وخرافات وفكاهة.
ويتميز الكتاب بالاستطراد فكان الجاحظ يستطرد كي يمتع القارئ ويأخذه من موضوع إلى آخر، ولا يقتصر محتوى الكتاب على هذا بل يتحدث عن موضوعات متعددة تقدم معظم المعارف الإسلامية والذي وصلت إليه في القرن الثالث، ومنها الكثير من تفسير آيات القرآن والحديث.
كما تحدث عن الأشعار الجاهلية منها والإسلامية للشعراء المخضرمين، والعديد من المواضيع المختلفة، ففي حضرة أسلوب الجاحظ في كتابه تجد تداخل مبهر في جمع المعلومات من نواحي مختلفة في أسلوب بليغ رصين عربي فصيح.
أسلوب الجاحظ اللغوي والأدبي
مال الجاحظ إلى استخدام قوة العربية وتتبع مواطن قوتها وتأثيرها، فتميز واشتهر أسلوب الجاحظ بأسلوبه الإنشائي من الأمر والنداء والتمني والرجاء وما إلى ذلك.
فهو في نثره كالبحتري في شعره، كما تميز أسلوبه برقي الألفاظ والسهولة والوضوح ومال إلى الاستطراد كما ذكرنا فيخرج من موضوع ليدخل إلى الآخر وهذا يدل على ثراءه العلمي وقدرته في الألفاظ والبيان.
وقد تعددت المجالات التي كتب بها فلم يترك علماً أو موضوعاً لم يكتب به من العلوم الإسلامية إلى العلوم الطبيعية إلى العلوم اللغوية.
كما امتاز أسلوبه بالسخرية التي تمتع القارئ وخلط الجد بالهزل، حيث يعتبر مبتكر هذا الأسلوب.
الجاحظ شاعراً وناقداً في الشعر
تعمق الجاحظ في الشعر وميزانه النقدي، وقد كان ذو سليقة لغوية مكنته من أن يكون ناقدًا لجيد الكلام ورديئه.
بالإضافة إلى ما ذكر فقد كان الجاحظ شاعراً أيضاً وناقداً شعرياً وقد كان يرى أن الشعر مؤسس من أربعة أركان وهي: الصبغة، والصياغة اللفظية، والوزن، والتصوير.
وكان يدعو إلى الاهتمام بصياغة الجمل بأسلوب متوسط ليس عامياً مبتذلًا، ولا غريباً أيضًا يصعب فهمه ويتوقف عند العمالقة من أهل اللغة، وإنما أراده بحيث يفهمه الجميع.
كما قسم الجاحظ الشعراء إلى طبقات مختلفة فلم يكن يرى أنهم متساوون في مرتبة واحدة من حيث مهارة الشعر، فقسمهم إلى نوعين:
المتكلفون
الذين يتكلفون في تنقيح شعرهم وتهذيبه فيتبارون في إجهاد الشعر بالصور البلاغية المبالغ فيها واستخدام الألفاظ التي تجعل من الشعر العربي قريب إلى المبالغة الممقوتة….
المطبوعين
الذين لا يبالغون في تنقيح اشعارهم يكونوا على طبيعتهم ولا يتصنعون، بل يأتي شعرهم معبرًا قوي الإحساس فيطغى طبيعته وقوته على معناه ويكسوه جمالًا وبهاءًا دون تكلف ومبالغة.
مكانة الجاحظ اللغوية والعلمية
للجاحظ مكانة كبيرة عند اللغويين العرب حيث يعتبرونه قدوة يسيرون على نهجه كما أنه ترك آراء قيمة ووضع قواعد ومقاييس وكتب ساعدت في نشأة اللغة وتطورها.
ففي الظواهر النحوية والصرفية والصوتية نجده تاركًا بصمته وقلمه وأثره ، فتحدث عن نشأة اللغة وعن تفضيله للغات عن لغات أخرى وعن التطور اللغوي وغيره ذلك الكثير.
إلا أن المتأمل في بحور كتبه يجده لم يتوسع كثيراً في النحو بالرغم من علمه بقضايا النحو ويظهر هذا في كتبه، كما أنه اهتم بالعلوم الصوتية فتحدث عن الجهاز الصوتي ومخارج الأصوات وغيرها.
شيخوخة ووفاة الجاحظ
بعد رحلة كفاح وشغف وولع بالعلم، وبعد مسيرة طرحت أشجار طرقها من الثمار أصنفًا وألونا أتى أمر الله باسترجاع هبته، فأتى الأجل ليعلن رحيل العالم الجليل الجاحظ.
ولكم كان ولعه بالكتب بحياته حتى مات بها، وقد مرض مرضاً شديداً في شيخوخته حيث أصيب بالفالج، وقد كتب يوصف هذا الألم قائلاً: ” جانبي الأيسر مفلوج، فلو قرض بالمقاريض ما علمت به، ومن جانبي الأيمن منقرس فلو مر به الذباب لألمت”.
وفي إحدى الأيام وفي يومه الأخير كان جالساً في مكتبته يطالع كتبه المحببة إليه حتى جائت لحظة وفاته فوقع عليه صف من الكتب فتركته ميتاً، وتوفي عن عمر يناهز الست وتسعون سنة أو خمس وتسعون في شهر محرم سنة 255 بمدينة البصرة بعدما خلف وراءه كتباً ومقالات وأفكار لا تزال خالدة ومطروحة حتى الآن.
ولا يزال الجاحظ رحمه الله علمًا ووسمًا يفخر به العرب والمسلمين وينهلون من أدبه وعلمه وثقافته بالكتب، وما زالت كتبه حتى العصر الحالي بين يدي المحللين يستخرجوا جديد علمها مما لم يتوصل إليه بعد، ويدرسون علومه ويبحرون في معانيه وثقافته.
[latest-selected-content limit=”10″ display=”title,excerpt” titletag=”strong” url=”yes” linktext=”إقرأ الموضوع كاملا” image=”full” elements=”3″ type=”post” status=”publish” dtag=”yes” orderby=”dateD” show_extra=”taxpos_category_before-title”]