الخامس عشر من كانون.
السادسة صباحًا.
صوت القطار يلوح في الأفق مع بزوغ ضوء الشمس البعيد، ليُفصح عن بِدء يومٍ جديد، ليستيقظ العالم مُحمَّلًا بخيبات الأمس وبكاء الليل الذي لم يأخذ براءة من سجن عيونهِ بعد. أما بعد:
فهذا صباحٌ آخر يملاؤني بتساؤلات لامتناهية، ماذا يُخبيء ذاك الأفق خلفه؟
كيف تقوى الأرض على حملِه؟
كيف ينفلج النهار من قلب الليل؟
وإلى أين يتجه ذاك القطار كل يوم؟
من أين ينطلق؟
هل على متنه أحد؟
إلى أين يتوجهون في هذه الساعة من الصباح؟
كم واحدٍ منهم يسير وهو يحمل خيبة ونصف قلب؟
وكم واحدٍ منهم خُذل من الحب، أو خَذل هو الحب؟
هل يسعى كل هؤلاء على لقمة عيش، ماذا إن كان الخبز ليس طعامنا، ماذا كنا سنأكل؟
استفقت حينها على تصوري الغبيّ لطعامنا بدون خبز.
لا يُهم، أنا الآن مُنطلقة بلا وجهةٍ تُحددني، أو أحددها، سأستقل القطار الذي لا أعلم إلى أين سيتجه، على كل حال، أحدًا لا يهمه أمري.
تذكرة القطار غالية الثمن لذا فيبدو أن الوجهة بعيدة، لا يهم لديّ كتاب سأقضي الطريق بين دفَّتيه حتى يصل إلى وجهته، تعمَّدت ألا أنظر لجهة الوصول على التذكرة حتى يبقى مجهول الهوية وباعثًا لأُكمل، قلت للناظر أريد تذكرة قطار السادسة، وهكذا فقط.
طلبت كوبًا من القهوة التي لا تحبني أرتشف رائحتها حتى تبرُد، وانتظرت في المحطة.
هذه هي المرة الأولى التي سأرى فيها القطار ويراني، أسمعه من وقع نظرتي له، لا من خلف أفق.
وأتى القطار على موعده، يبدو أنهم يشوِّهون صورة سكك حديد مصر عن عمد، إنه هنا على موعده، لم يأتِ بعد عشرين سنةً مثلًا، إنه نفس الموعد الذي يأتي فيه عند كل صباح ومع كل بزوغ شمس، لا متأخرًا ولا متقدمًا، أيًا يكن، لا يربطني موعد من الأساس.
تحرك القطار وعرفت أول إجابة، ليس القطار بمزدحم لكن يستقله أحد، يسعى كلٌ منهم لسعيه في طريقٍ يخصه، ليست كل التساؤلات لها أجوبة، لكن على الأقل هدأ فضولي بعض الشيء.
بجانبي أم وثلاثة أولاد، بيد كل منهم لقمة عيش، تسعى هي لأجلها، وبطل التساؤل الثاني.
دقت السابعة ودق موعد صاحبي النوم، فرُحت إليه على إصرارٍ منه. حلم!
مرة أخرى!
كم أنا محظوظة!
ولكن لحظة واحدة!
كل هذا الظلام لي وحدي!
حتى الحلم أنا فيه وحدي!
لحظة!
من هناك!
أنت!
لم ينظر إليّ، فشعرت بوخزٍ في أيسر صدري واستفقت.
هذا الحلم الغريب مرةً أخرى، فتلك ليست أول مرة، على كل حال لايهم.
بدأت أفتح كتابي بعد أن إستقر الإضطراب عِلَّتي على جُنُب.
وأحاول مرارًا أن أُمسك طرف كل كلمة تسوقني خلفها جملة، وأقع في تفاصيل الكتاب وأنسى عِلَّتي ولا تنساني هي، ظللت أفكر في الحلم، والشخص المجهول، وفيَّ، وفي طريقي الضائع الذي سُلبته مقابل التذكرة.
فجأةً صرخ القطار بعلو ما فيَّ من صرخة، وتوقف في محطةٍ قادني فضولي لأرى الإسم كانت هي “بني مزار”. وكان هو، فكانت هي.
أتى شابٌ صبوح الوجه مشرق جُمع عَبق كل قديم ونُثرَ في مُقلتيه، يرتدي قميصًا أبيض، مفرودٌ كتفاه -رُغم ما تخفيهما من هموم- وابتسم!
كانت السيدة وأولادها قد همُّوا بالعزول عن مقاعدهم، يبدو أن وجهتها هنا، فأتى هو واستأذن بالجلوس، أومئت له برأسي أن تفضل.
لِمَ يستأذن الناس عادةً لفعل أشياء هي حقٌ لهم؟
هل إن قلت له لا تجلس، لن يجلس؟
لا يهم، جلس وانتهي الأمر.
مه!، أيُّ أمر، لم يحدث شيئًا يستدعي كل هذا!
عُدت لكتابي وحتى ألج فيه، فتحت سم خياط آذاني بقصيدتي الأحبُّ لبَخيت فيقول: “هوِّن عليك فلا هناك ولا هنا، وجهًا لوجهٍ قُل لموتك ها أنا.”
حينها عُدت لحياتي التي أقف فيها أمام موتي كل يوم، -بكل جسارة أنا هنا-، ولا يراني ويرحل.
كما يرحل عني أحدهم كل يوم، إلا يومًا أوقعته من يدي، فسقط بقلبي وأضعت مفتاحه، فضللت الطريق.
أذكر أني يومها كنت أرتدي فستانًا أبيض بأكمام طويلة مطرزًا بورود الأمس، وشالًا من كتان، أحفظ تحته كل وردةٍ لئلا تذبل من برد ذكرياتها، وأحمل خيبتي بحقيبة يد، يداها مبتورة كقلبي، كنا كتائهتين تشاركنا الطريق.
تذكرت أن المرء قد أن يضجر أحيانًا أو يمَل وضعًا دام طويلًا، لِمَ إذًا لم أُرهق من عناء الطريق؟
فتذكرت حينها أني دائمًا ضجرة ومرهقة، فلا مجال لهذا هنا.
حتى توقف القطار فجأة بدون صفارة كأول مرة، ما دفع فضولي للتساؤل، ماذا حدث؟
ردَّ الشاب بجانبي -وكنت قد نسيت أمره- : يبدو أنه قد حدث عطلٌ ما، سيتم إصلاحه، هو هكذا دومًا، لن يطول.
لعنتُ نفسي أني وقفت لصف سكك القطارات وسُمعتها ولعنتُها، ولعنتُ كل من أجبرني يومًا أن أقف اضطراريًا لأصلح ما أفسده بعد أن رحل.
اضطررنا أن ننزل عن القطار لأنها ستطول وأن العطل الذي حدث بالعربة التي أستقلها -الوحيدة- التي ستنزع عن القطار ويكمل سيره، وإما أستقل أخرى، أو انتظر حتى موعد قدوم آخر.
كنت سألعن المواعيد والطرق والعربات، حتى تذكرت أنها تجربة فريدة، إذًا لِمَ لا؟
كانت المحطة هي “مَلوي” وحتى نزلت عنها وجدت بلدًا شاغرًا بالحِس والدين والكثير الكثير ممن يسيرون بخيبةٍ ونصف قلب، استعنت بمحرك البحث الذي قال لي عن “مسجد اليوسفي” قطعة مباركة بأرض مَلوي، وزُرت “متحف مَلوي”، كانت تجربتي الألطف.
كنت فَرِحَةْ أمشي بخفة، ونسيت ثقل قلبي، أكلتُ بنهم، وأخذت تذكارًا لكل شيء، موعد القطار!
ولكن لحظة واحدة!
هناك فتاة على جانب الرصيف نائية عن كل هؤلاء، وحدها!
حتى اقتربت منها فوجدتها!
لحظة!، إنها تبكي!
هممت للوصول لها حتى وجدتها وحمامتين جوارها، كأنهما وجدتا أن البشر تجردوا من بشريتهم، فتحليتا بها هما، وآزروها.
وجدتها تبكي وغزًا أيسر صدرها تخفيه، ما بكِ؟
حتى انفطرت بكاءًا وارتمت على كتفي، فما وسعني سوى أن أبكي بكائها وبكائي -الذي لن يضير أحد- مؤازرة لنا.
حتى رنَّ هاتفها، وتذكرت حينها أن الهواتف عبء يحمل بها الناس أرقامًا وصورًا ووثائق تذكرهم كل لحظة، بذكرياتهم التي كُتبت عليهم، فحفظوها هم، وكيف يُحَمِّلُ المرء نفسه ألمًا لن يقواه؟
ظلَّت صامتة، تسمع في وجم، حتى انفجرت باكية، ثم هدئت، وقالت: لا مجال لهذا، أنا أبكي بالشارع وهكذا يزداد الأمر سوءًا، انتهى.
وأغلقت الهاتف.
أيقظت الأمل والحكمة -اللذان قد غفوا منذ زمن- وأسقطتهما على الغريبة -لأنني كالعادة نسيت أن أسألها عن اسمها- حتى قالت: هو لم يترك بابًا يعود لي منه، غلَّق الأبواب عليَّ مع الألم وقال هيت لك.
أيعود؟، بعد أن ألنتُ له قلبي فعصره حيًّا، وتركه عَطِب، أيعود؟، بعدما جفَّ إنتظاري وبهتت لهفتي ويبس أملي أن يعود؟ لِمَ يتركنا الأشخاص مليئين بهم جدًّا ويرحلون؟
كتمت غصة بحلقي شعرتها، فقالت: ولا يعودون أبدًا حتى وإن عادوا.
قُلنا الكثير حينها وشعرت الكثير، إلا كلمةً واحدة لا أنساها: لم يكن سيئًا، وهبت له أملي كله، ومددت له يدي بقلبي خواء فزرعه وردًا، إلا أن مسافة الحياة لم تكن لتسمح أن أعبرها ونجتمع، فإفترقنا، كان يقدر أن يحاول، لكن هذا لا يغفر له أنه رحل!
حتى قالت رحل، سقطتُّ في جُبِّ أوجاعي التي أغرقتها قبل أن تقتلني، و قلت: هل البشر سيئين؟
وقبل أن ترد، وكأنني في حوار مع نفسي قُلت: بالتأكيد ليس كل البشر سيئين، وليست كل الإختيارات خاطئة، لكن هناك أشخاص لم يكونوا على قدر المسؤولية، وأشخاص لم يكونوا بحجم المشقَّة، وهنوا بالطريق قبل أن يهوِّنوا ونصل -معًا-، وحينها يضطر الواحد منّا أن يُكمل المسير -غصبًا- وحده!
فقالت هي: من يُلام إذًا على كل هذا الألم؟
من يصحبنا ليلًا فيكون عونًا وطمأنه؟
من يكون إذًا في كل الصباحات الوحيده؟
ومن يتواجد عند كل إنجازٍ -صغير- يعني لنا الكثير؟ أين تتمثل الإنجازات وهم ليسوا هم؟
رددت وكأنني لم أسمعها: قد أكون مختلفةً بعض الشيء، قد يكونوا على حق وأنا مسخ، قد صحَّ أني لم أكن كافيةً ذات يوم -وهذا لا يُعيقني في شي- وقد أكون ..
حتى قاطعتني وهي تشير بسبابة يدها اليسرى نحو صدري: هنا قلبًا مُحب!
حتى انفجرتُّ باكية: لم ينفعني يومًا هذا القلب!
ماذا حصدت من وراءه!
كل يوم فقد؟ ياإلهي، هذه هي المكاسب بحق!
ينفلت مني يومًا تلو الآخر أشخاصًا أحملهم به، فقط لأنه يمنحهم الحب!
ما فكرتكِ عن الحب؟، أن أعيش في ولهٍ تام لأجل شخص ما، أُفضِّله عن ذاتي، أتودد له بكل ما يحب، أصنع بيدي أشياءًا له وحده، أمسك يديه، أسمعه حين الضجر، وأضمه حين انفجر، وحينما يضطر أن يختفي، فقط أجعل الضوء خافتًا؟
فعلت كل هذا وأنا التي كدت أختفي من فرط هشاشتي، لم يروا هذا هم، لم يقدِّروه!
حتى وهن صوتي قليلًا: إنني حاولت بكل ما فيَّ لأجل من أحببت، وأين هم الآن!
حينما اختفت محاولاتي معي، لم يتكلفوا عناء البحث عني، لم أكن موجودة يومًا يا ..
وانحنيت خجلًا لأنني لا أعرف اسمها.
قالت: شمس، اسمي شمس.
مسحت دمعي بطرق إبهامي ومددت لها يدي: غيم.
نحن جيران إذًا؟، قالتها مبتسمة.
قالت: أتيتِ إلى هنا تحملين كل هذا، لأجل أن تخففي ما بيّ، فامتلئتِ أنتِ به!
رددت: تعرفين؟، هذه هي المرة الأولى التي يسعفني بها القدر، وأعرف اسم غريب قبل أن أودِّعه. حتى قالت: توقفي عن المحاولة يا غيم!
هذا لم يكن خطأك، صحيح لم يبقى أحد، وهذا بطريقةٍ ما لن يُفلح أن يُكمل أمرًا تفعليه، لكن على الأقل، توقفي عن المحاولة حتى لا يفسد قلبكِ أكثر، ولا تسمحي له أن يقود الدفَّة مطلقًا، بعض العاطفه يغلبها الفِكر، وبعضه الآخر تغلبه العاطفه، وجِّهي كل هذي الطاقة نحو وِسع القلب ليساعها فيمتلأ بها، ويعود!
لم أرد، فأكملت: أنا أعي معني ألا ينجح إمرؤ في إبقاء الودُّ، حتى إن كان يحمل معه الكثير منه، لكن أعي أيضًا أنه لا يستحق حينها أن يبقى!
أنا لن أفسح له طريقًا يعود منه، لأنه لم يحاول من أجلي يومها يا غيم!
أخرجت ورقة من جيب حقيبتها وقالت لي، لا تفتحيها إلا عندما تذكريني.
كان القطار العائد، فهممت بالرحيل لأعود حيث أتيت، رُغم أني شعرتُ أني أنتمي إلى هنا بطريقةٍ لم أفهمها.
قالت: أنا لا أملك تعريفًا للحب، لكنني أشعر به حينما ألمسه، ولو أني أغيثُ به الملهوف، أدُل القلب التائه، أضُمّ ..، هل أضمُّك؟
كانت ضمَّة من فرط ضيقها أوسع الميادين وأرحبها!
ودَّعتها، وحمدًا لله أني رأيت الهاتف بيدها، فطلبت طريقة للتواصل، وسرت نحو القطار، طلبت شايًا هذه المرة أشربه، وتذكرة للقاهرة، حتى أتى القطار.